في تلك الأيام انتشرت في البصرة أيضاً بدايات التصوف، ونذكر مثلاً رابعة العدوية ؛ فقد كانت في تلك الأيام، وكان معها طائفة من العباد.
والتصوف قد غزا البيئة الإسلامية من الهند؛ فهو هندي الأصل يتفق مع الديانة البوذية في كثير من مبادئه، فجاء من هناك -من الهند ومن الشرق- وأتى إلى البصرة ؛ لأنها الميناء الذي هو أقرب الموانئ الإسلامية اتصالاً بـالهند .
هؤلاء المتصوفة لم يخرجوا كما فعل الخوارج، لكن كانوا في شدة التعبد، ويخيل إليهم وإلى الناس من حولهم أنهم هم أهل الدين وأهل السنة وأهل الحق؛ فإذا رأوا رجلاً مقتصداً في عبادته، ظنوا هذا من ضعف إيمانه ومن تفريطه ومن إهماله، وإن كان صاحب علم وفضل وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
فهم لا يعظمون إلا من انقطع عن الدنيا؛ كهذه المرأة (رابعة) التي انقطعت عن الناس ولم تتزوج وعبدت الله تعالى بالحب فقط.. كانت تقول:
أحبك حبين حب الهوى             وحباً لأنك أهل لذاكا
فالناس رأوا أن هذه هي الصورة المثلى للعبادة، وأن العابد الذي يعبد الله حقاً هو الذي لا يريد الجنة ولا يريد النجاة من النار، وإنما يعبد الله محبةً في الله، يريد ذات الله فقط.
إن الذي لا يعرف حقيقة الدين وما كان عليه المرسلون وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر الله تعالى في كتابه من صفات المؤمنين المتقين يقول هذه صورة عليا، وأما أنا فمسكين أعبد الله حتى يدخلني الجنة؛ فأنا إذن ضعيف الإيمان.. وما دمت أخاف الله، ولا أريد أن يدخلني الله النار، فعبادتي ضعيفة بهذا الاعتبار، ولستُ على السنة... هكذا يزين له الشيطان.
هذا الاتجاه سلكه أمثال رابعة وأمثال رياح بن عمرو القيسي وأمثال هؤلاء الذين كانوا يتعبدون بزعمهم لذات الله وبالحب فقط؛ كان فيهم جانب آخر من جوانب الغلو التي وجدت في ذلك الزمن.